للأسف لا أرى الدكتور أحمد خالد موفقًا في الكتابات الدسمة الجادة إذا ما قورن الحال بما وراء الطبيعة وسواها من السلاسل. الرواية مليئة بالفقرات غير الموظفة والتي يمكن حذفها دون خسارة ولا فرق. والكثير من الكتابة الإباحية المتعمدة، مشكلتها أنها مقحمة ومبالغ فيها، بهدف مفارقة حال سلاسل المؤسسة العربية الحديثة الخاضعة للرقابة المنزلية-فيما أرى-. الهيكل العام للعمل لا يختلف عن فيلم “حين ميسرة” مثلاً، فهو عرض لأسوأ قطعة من الواقع لهدف اجتماعي. والهدف الاجتماعي المطلوب ليس الثورة على هذه الأوضاع، بل الثورة الثانية، وكيف تتجاوز الأولى، وفيم أخطأت الثورة الأولى. من يرد اليوم أن يكون فنانًا اجتماعيًا في مصر فليبحث عن عوامل فشل أو تعثر ثورة يناير، لا أن يعود بأدواته إلى ما قبلها كأغلب العمل، اللهم عبارة واحدة عن احتمال تحول عبارة يسقط حكم العسكر إلى يسقط حكم الإخوان.
الفقرات الخاصة بالوسط الثقافي المصري (ص 104-110) فيها إساءة كبيرة للوسط وتنفير لمن لا يعرفه منه، فوسْط هذه العبثية والكذب والنفاق هناك الكثير من الصدق والفن الحقيقي. الفنان الواقعي لا ينتقي من الواقع ما يثير شهوة جمهوره أو ما يوافق غرضه الأدبي، بل ينقل الواقع بأمانة قبل أن يقوم بنقده. أتوقف في سياق نقده للوسط الأدبي والثقافي عند رؤيته للشعر الغامض أو المبهم، وكيف أنه يُكتب بهذه الصورة لمداراة ضعفه، دون إبراز أوجه الضعف نفسها ولا كيفية مداراة الغموض لهذا الضعف، وكأن كل ما هو غامض في الفن ضعيف بالضرورة!! أقترح على الجميع مطالعة بعض ما كُتب في هذا الموضوع، مثل دراسة الدكتور عبد الناصر حسن عن شعرية الغموض والإبهام، فيما يخص شعر الشاعر السبعيني الراحل محمد عفيفي مطر، الذي سخر من شعره الدكتور أحمد خالد في إحدى روايات سلسلة فانتازيا لا لشيء سوى لغموضه، وهذه الدراسة منشورة في الكتاب التذكاري الذي أصدره منذ سنوات المجلس الأعلى للثقافة (2005) بمناسبة وصول الشاعر للسبعين. استوقفتني شخصية واحدة فعلاً في الرواية، هي الجانب الوحيد المتميز الذي أرى أن هذا العمل قد قدمه: شخصية إبراهيم المصاب بسرطان الكبد، والذي يحلم بأنه رجل أعمال فاسد مترف متزوج من حسناء، ويعيش في جنة أرضية، ثم يتساءل إذا كان ميتًا ويحلم بحياة الحارة العشوائية التي تدور فيها أحداث القصة، وهو ميت فعلاً منذ الربع الأول من الرواية. فكأن نعيمه الأخروى هو حياة أشبه بحياة أحمد عز وأغنياء الفساد. بصفة عامة الرواية لم تتجاوز مرحلة (يوتوبيا)، هي محاولة للخروج عن المؤسسة العربية الحديثة بطابعها المميز، لكنها لم تصنع ما هو جديد ومستقل بعد.كما أن رؤية الكاتب لا استبصار فيها، باستثناء تلك التلميحة عن تحول عبارة يسقط حكم العسكر، أي أن الكاتب يجترّ الماضي، والثورة نفسها جزء من هذا الماضي، دون تسليط عين مستقبلية على القادم.وهذه هي مشكلة الجيل السابق على جيل الثورة، إنهم يعيشون زمنًا آخر! وأي أديب يجلس على مقاهي وسط البلد ويتحدث إلى الشباب الذي قاموا فعلاً بالثورة سيجد أن همومهم مختلفة، وطريقة تفكيرهم مختلفة، وإيقاعهم في التفكير أسرع، والنتائج أمامهم واضحة، والانحياز قائم في استقطاب حاد. كل هذا والجيل القديم من أساتذتنا ومفكرينا وصحافيينا وغيرهم لم يزل يتحدث عن إعطاء الفرصة للإخوان، ونقد واقع ما قبل الثورة، وما شابه! عن اللغة والأسلوب فالكثير جدًا من التعبيرات الطريفة والمميزة معروفة لكل قراء ما وراء الطبيعة فعلاً، ومكررة بالتالي، اللغة مسطّحة أقرب فعلاً للغة سلاسل المؤسسة التي تهدف إلى السرد فحسب دون أن تكون اللغة نفسها غاية فنية ولو جزئيًا، ربما باستثناء أعمال رءوف وصفي. الشخصيات مرسومة بشكل جيد يوافق إيقاع العمل السريع، وحجمه المختصر، فالكاتب يكتفي من النسيج بخيطين أو ثلاثة، هم ما يميز الشخصية عن سواها في صياغةأقرب إلى رسم (ماتيس) الذي كان يكتفي بخطين لتصوير رجل أو امرأة أو مقعد أو شجرة، دون الخوض في تفاصيل غير فاعلة لا امتداد لها في بقية العمل. هناك استعمال جيد للزمن، واضح في شخصية مريض السرطان الحالم السالفة. عنوان الرواية موفق جدًا، ويلخص الحبكة بإحكام، فالكلمة هي السنجة، والسبحة، والسيجة، والسرجة، والسرنجة، وفي كل تنويعة قصة مختلفة. وإن كان الأفضل أن يرسم العنوان بما يوحي بهذه المفردات معًا، مثلما أوحت كتابة الفتاة لها بها. لكن هذا الاقتراح يُدخل الكاتب والناشر في مشكلة تسويقية أكيدة، أنا نفسي عانيت منها في كل عناوين أعمالي الخمسة المنشورة ورقيًا(!) |
لا تتوقفي عند كل خلية في بشرة الله. اثقبيها واهبطي. خذي أولَ كرة حمراء في أول وريد. ستجدين الطريق مزدحمًا لكنه سريع. وإذا قابلتْكِ العسكريةُ البيضاء، أبرزي لها جوازك المزوَّر. لا تقولي أبدًا أنك إنسانة، قولي أنكِ أُلوهية صغيرة، فدَمِ اللهِ يتعرف غير الخالقين. تصرفي على فطرتكِ. الفطرة هي الخدعة الوحيدة التي تنطلي عليه. سأسليكِ في الطريق وأحكي لكِ معالِمَ سياحية.
ستخرجين من وريد إلى أكبر فأكبر. سترين رُتَبَ أجسام الله المضادة، وصفائحه الحديدية. سترين كبده الذي اختصه للكافرين. ربما تدخلين القاعة المزدوجة الفسيحة، التي تتمدد كالكون وتنكمش. ستشمين فيها الروح التي يدخّنها كي ينشط حاسة إبداعه. ولكن احذري أن يقذف بكِ في شكل بكتريا أو جسم سعدان.
ها أنت تدخلين بيتي المُكْتَرَى. أنت في قلب الله الذي يرفّ. هل ترين كيف يدق كالساعة المجنونة؟ في أول الشرايين التاجية ستجدينني هناك. هذا أنا الذي تبحثين. ولأنكِ جميلة فسأقول لكِ أنني تخَثَّرت هناك. ولأنكِ رائعة سأريكِ أنني جلطة في قلب الله. تعالي نشرب النبيذ الأحمر. إنه قلبٌ يضعف، وهو يموت. ويا لها من لحظة رومانسية تلك التي يموت فيها إله! لا إطلاقًا، أنا لستُ ملحدًا، أنا-فقط-رومانسي أكثر من الحَدّ.
22.10.2015
Köln
انفجرت مدوَّناتٌ عتيقةٌ من جيب جثة رائد فضاء، فتمزق اللحنُ وتحررَ الإيقاع. كل صفحةٍ وَحْيٌ مستورٌ، لا يكشفه إلا مَن كان مُضيئًا أو خاف الظلامَ مِثلَ مضيء. كل علامة من الإرث الزمني لحظةُ تنتظر الفضَّ من وَرَقَتها، وتبحث في الأجواز عن موسيقيين. تحمل في جِلدتها وشمَ الوقتِ المطعونَ بعقارب الساعات أو كَهَارِبها مِنْ عصر التأليف. كل عقربٍ أشار إلى كوكبٍ، وكل كهربٍ أضاء مغتربًا في المنفى إلى نجمه القديم. كل كوكبٍ ونجمٍ دار على إيقاع دورة الكونِ، والكونُ أوّلُ الساعات، وأصلُ التوقيت.
فإذا قرأ الناسُ الكتابَ عربيًا وأعجميًا، وحَيَا الناسُ الزمنَ وماتوه، وإذا قرأ الخَلقُ الجديدُ مدونات البائدين، وجمَّعوها بسفريّاتِ الأنوار في مَحَالِّ الوجود، اجتمعتْ للَّحنِ الأوصالُ، وزغردتْ في الأوتار أرواحُ المنقرضين، حتى تنتصر على الزمنِ الباصاتُ، ويكونَ مفتاحُ الموسيقى رَبًّا غليظًا في اتساع الكونِ الجديد.
(ملحوظة: فا مفتاح الطبقات الغليظة في المدونات الموسيقية)
Köln
10.10.2015
بلورة تمتلئ بالماء، وفيها أشياء تسبح، كذا يبدو مشهد الكوكب حين يمر بعصر طوفان. وهي أشياء يحبها الله والأطفالُ؛ لأنها تبدو كحوض صغير يسبح فيه بشَرٌ-زينةٌ لامعون. قلت لزملاء المرصد أنها ظاهرة. قلت لهم أنه ليس طوفانًا عاديًا. الفارق أن الله لم يسكبه، وليس فيه نُوح. لكنهم لم يأبهوا كثيرًا. فوق صحراء لم يغطها الماء بعد انفجرت طائرة سياحية، ثم أطفأها الماء، وعلا بجثث سائحين (أُدخلوا نارًا فاُغرِقوا) ولم يجدوا لهم في المنطقة أنصارًا على أية حال. أثار اهتمامي المعتقَلون الذين يحبهم اللهُ نوعًا، والماء يدخل الزنازين المغلقة فيصير سجونًا فوقها سجونٌ، والطبيبةُ التي احترقتْ سَحاياها في مشهد مهيب للرأس المندلِعة على صفحات الجرائد، وهي تتطحلب على الماء.
سألتُ زملائي من الصحافيين الإلهيين وباحثي اللاهوت، فأكدوا لي: “لقد غرقتْ المدنُ ولكن الله-حتى الآن-لم يعلن مسئوليته عن الواقع. لا أحد في الواقع!”
6.11.2015
Köln
السيمفونية اللغز.. سادسة تشايكوفسكي الحزينة
Posted: 01/04/2015 in موسيقىالوسوم:Elsaiad, كريم الصياد, تشايكوفسكي
تعليق على رواية “قمر على سمرقند”
Posted: 18/10/2014 in النقد الأدبيالوسوم:قمر على سمرقند, قنديل, كريم الصياد, المنسي قنديل
لا شك أن “قمر على سمرقند” للمنسي قنديل عمل ممتع، يسافر بك إلى أجواز جغرافية وتاريخية من بخارى وسمرقند إلى القاهرة، من انهيار الجمهوريات السوفييتية، إلى انهيار الناصرية والقومية العربية، ومن أساطير المغول والتتر إلى أساطير الفراعنة، ومن تيمور لنك إلى أنور السادات، في حكايات داخل حكايات، تاريخية وأسطورية وخيالية، وشخوص غنية معقّدة ذات ذكريات أليمة، وآمال لم تتحقق، وحب مفقود، وفضائل وخطايا، مع قدرة عزيزة على الوصف والتفصيل، وانسياب عاطفي غامر، ولغة يسيرة، سهلٌ الولوج إليها، مرصّعة بجمل مكثّفة، مصوغة بعناية، تستطيع بكل بساطة أن تقبسها، وتكتب تحتها: قمر على سمرقند.
والمفارقة أن هذه الرواية بالذات تمتعك بقدر ما يفاجئك التأمل في بنيتها ولغتها بثغرات كبرى، يندر أن يقع فيها عمل له هذه القدرة على الإمتاع، وسلبِ الحاضر لحساب الخيال والذاكرة والتاريخ. وقد انقسمت هذه الثغرات في هذا العمل الكبير المعقّد إلى أنواع أربعة: لغوية، وأسلوبية، ودرامية، وثغرات المعالجة:
1-الثغرات اللغوية:
وهي أقلهن أهمية، بعض الأخطاء النحوية الواضحة القليلة، ولكن الخطأ الأكثر تكرارًا هو تعريف المضاف بأل (مثل: الغير كاملة)، وهو خطأ يشوب أعمال المنسي قنديل عمومًا، وبرغم أن مجمع اللغة العربية أجازها كالعادة، فهي غريبة وصادمة بالنسبة لقارئ الفصحى، وقليلة الشيوع في الكتابة بها، ويمكن بسهولة تجنبها.
هذا من حيث النحو. أما من حيث اللغة باعتبارها أداة فنية، فقد كانت اللغة مقتصَدة، لا شعرية زائدة فيها، ومناسبة لعمل سردي، بحيث تمنح تركيز المتلقي بيسر لصالح الدراما ذاتها. تمتعت اللغة بموجات صعود وهبوط في انتقال مرن ناعم، من السرد المسطّح إلى الشعرية المعتمة، بدرجات متنوعة، بحيث وصلت أحيانا-كما سبق-إلى حد الجمل المكثفة الثقيلة الموجزة. وإن كان قد أصابها بالترهل أحيانًا بعض الإطناب، مثل “صمت كأنه يزن كلماته التي سيقولها..” وهل سيزن كلماته التي لن يقولها؟!
2-الثغرات الأسلوبية:
وهي أشد خطرًا من السابقة، وأكثر عمومية في أعمال المنسي قنديل، وأهمها الحوار، فمستوى الحوار لا يتنوع باختلاف المستوى الثقافي للقائل، ولا بحالته النفسية، ولا بأسلوبه، ومثال ذلك ص 334 من (ط4 دار الشروق، 2014 ) حوار بائع الأوسمة والنياشين، وهو يتحدث عن الخلود المجمَّد في النياشين(!)، والتي تحتاج إلى فيلسوف وجودي لقولها، فضلا عن توقع فهمها، لتصدر عن بائع بسيط يبيع بضاعته لناس بسطاء. وهي ظاهرة عامة كما قلت. وهذا لا يرجع إلى استعمال الفصحى، فنجيب محفوظ مثلاً كان قادرًا على جعل الفصحى تتكلم بلسان الشخص بحسبه، وليس بحسب المؤلف. والظاهر أن لغة الحوار على ألسنة كل الشخوص هي لغة المؤلف نفسه، وهو ما يفقد الأسلوب أحد أهم إمكاناته في العمل السردي، ويجعل العمل من هذه الجهة رماديًا صامتًا مونولوجيًا، لا يكاد يكون فيه داع لوضع نقطتين رأسيتين وبدء حوار.
أما الثغرة الأسلوبية الأخرى فهي استعمال موقع الراوي العليم، ومن المعروف أنه يستعمل لحكي عدة أحداث لا يمكن لراو واحد معرفتها في آن. أما الواقع فهو أن هذه الرواية تستعمل هذا الموقع دون أية فائدة تذكر منه. كل الفصول يمكن روايتها من جهة المتكلم، خاصة وأن جلها ذكريات شخوصها.
3-الثغرات الدرامية:
وهي أخطرهن؛ فهناك حكايات وشخوص كاملة لا أهمية لها إطلاقًا في المسيرة الدرامية. شخص (نور الله) الأهم بعد الراوي، ما أهميته في الدراما؟ وهل تتأثر الدراما لو حذفنا من الرواية حوالي 150 صفحة هي قصة هذا الشخص من عمل يبلغ حوالي 560 صفحة؟! تلته حكايات أخرى تنافسه في عدم الأهمية الدرامية، مثل حكاية بيبي خاتون، وصائد الذهب، التي احتلت مساحات كبيرة، دون أن تؤثر على الدراما بسلب أو إيجاب. صحيح أنها مروية بأسلوب ممتع، وأن تفاصيلها تنقل القارئ إلى زمانها ومكانها في سفر دون حركة، إلا أنه كان بالإمكان دمجها ضمن الدراما بحيث لا تفهم الأحداث إلا بالرجوع إليها. لقد أسرفت الرواية في بناء شخصيات مثل نور الله وفايزة التهامي، دون أن تكون لها أهمية درامية حقيقية، فالأحداث تسير دونها شاءت أم أبت. ومن جهة أخرى انبهر الكاتب بقدرته على الوصف، وكثرة ما جمع وتحرى من التفاصيل والدقة، فجاءت حكاياته عن بيبي خاتون وتيمور لنك وغيرهما صالحة لوضعها في كتاب منفصل عن أساطير وتاريخ هذا البلد المعقد، دون أن يكون لها دور درامي يذكر كذلك. ثم ما السبب الأساسي في رحلة البطل غير الأسئلة التي يعرف إجاباتها بالفعل قبل سفره وهو في مصر، وهو ما يتضح في حكايته عن نفسه في الفصل الأخير؟! وهي ذات الأسئلة التي لا يعرف إجاباتها القارئ حتى النهاية، وإن كان القارئ قادرا على استنتاج هذه الإجابات -كما قد يكون المؤلف قد عوّل عليه- فإن البطل أولى بذلك. كذلك حدثت العديدات من الصدف التي أصابت العقدة بالافتعال نوعًا.
4-المعالجة:
حفلت الرواية بإمكانات غنية غير مستغلَّة للمعالجة الفلسفية والاجتماعية فضلا عن الأبعاد النفسية التي أجادت التجسد فيها. أبرزها ربما هي فكرة (غروب الإمبراطورية) وهو يتحدث بشأن الاتحاد السوفييتي أو خسائر حكومة ثورة يوليو في مصر. لم يتم التوقف عند هاتين النقطتين بما يكفي لصنع بُعد فلسفي واجتماعي كان يحتاجه العمل ليتحرر من بنية (القصّ) و(الحكاية) المسلية.
والسؤال هنا: لماذا تعتبر هذه الرواية برغم كل هذا عملاً يعتد به في تاريخ الرواية العربية؟
1-أولاً بسبب المرحلة التي ظهرت فيها، والتي سادتها النيوليبرالية في الأدب بزعامة أحمد مراد. مرحلة التسطيح، وتحول الأدب لظاهرة اقتصادية بحتة، لا تدرس في محافل النقد الأدبي، بقدر ما يجب دراستها في مجال دراسات الدعاية والإعلام والسيطرة على سلوك المستهلك وتوقع هبوط وارتفاع السوق النسبي.. إلخ. ظهرت هذه الرواية عملاً جادًا أرهق مؤلفه، مشبعا بعاطفة جارفة، وألم حقيقي، دون أن تشوبها شبهة سرقة أدبية، أو ألتراس Ultras أدبي، أو لعب على أوتار المتلقي، أو حتى النزول إلى مستواه من أجل الارتقاء به، أو رفع شعار سياسي، أو خالف تعرفْ، أو الإسراف في الجنس غير المبرر لفظًا وحدثًا لجذب شريحة معينة من القارئ، وهو ما شاب الكثير من أعمال أدباء كبار أصلاً من أمثال إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويوسف زيدان (الذي قد أُردف هذا المقال بمقال آخر يفسر لماذا هو أديب كبير).
2-قدرة الكاتب على الوصف: فالكاتب يجيد هذه التقنية التي جرى التخلص منها منذ زمن طويل منهجيًا في معظم الإنتاج السردي العربي، فالقارئ الذي يتواصل مع المحيط العام عن طريق تويتر وواتس آب لا يطيق أن يقرأ وصف حجرة في مدرسة ببخارى لمساحة صفحة كاملة، مع دقة ذكر شكل الفتحات في المصابيح التي يخرج منها النور ويضيء المشهد، وشكل الشيوخ المتراصين فيها، إلخ. هذا الفن المهجور يثبت جاذبيته التي سِرها أنه يغلّف المتلقي بالتفاصيل ويستلبه بلطف لعالم آخر ناءٍ، في حالة أشبه بالحلم. لم يقم الكاتب فقط باستعمال هذا الفن، بل أجاده، إلى درجة قدرة العمل على السفر بالمتلقي وهو في مكانه كما ذكرنا.
3-الذاتية القوية والشاملة: غلبت على الوصف نفسه الذاتية، فالمصابيح الموصوفة ليست موصوفة لأجل رسم مشهد فقط على الورق، بل في الشعور كذلك، فالمصابيح كالعيون الغاضبة، والظلام يحمل عتمة الكآبة في نفس الشخوص، إلخ. وبالتالي تميزت الرواية بتوتر لا ينتهى ولا يتعب منه القارئ من المشاعر الجياشة للفقد والألم والحب والشهوة والخوف والاكتئاب والحزن والكراهية، في ما يشبه سيمفونية متناغمة في هارمونيات عديدة ديناميكية هادئة وعميقة في آن.
4-التشويق الدرامي: استطاع الكاتب أن يحتفظ بقارئه رغم تعقيد العمل، خاصة في الفصل الأخير، وذلك عن طريق الحكايات التاريخية الواقعية ذات الأهمية الكبرى (كحادث الفنية العسكرية بمصر)، أو الخيالية الجذابة، والمفاجآت، مثل ظهور نور الله في غرفة فندق البطل وهو يختلي بفتاته.
إنها رواية –كحبيبتك- تقبلها برغم عيوبها، و-ربما- بسبب هذه العيوب، التي تجعل منها إنسانًا حيًا.
كريم الصياد
Köln, Deutschland
18.10.2014
اللوجوس λόγος
لقد حدثَ لي شيء دون عالَمٍ
صدمني في ركبتي،
وحين نظرت لم أجدْه.
كيف تجد شيئًا دون عالَم؟
وكيف تمسك بمعكوس اللا شيء؟!
* * *
كانت حبيبتي تمشط شعرها في المرآة
وتبتسم لي
وكنت أراها
وهي تنظر معكوس نفسها
أطرق لها على الطرف الآخَر
وهي تمشط شعرها
وتبتسم.. لي.
* * *
تورّمت ركبتي
وصرتُ أعرُجُ كالملائكة
كان الألم وجبة لا أستطيع إنهاءها وحيدًا
وكنت أسأل في خوف:
“هل سأكفّ عن الحركة دون أَحَد؟”
ثم بدأتْ تحدُث لي ثعابينُ كثيرةٌ من الألم
لقد بدأت أرى الألم
ويمكنني أن ألمسه، كسلك عارٍ
كان يلتف في جسمي كالكابل الغليظ
وصرت أرى الوحدة
وهي جالسة في الركن، بيضاء، ونحيفة
وأصبحت أرى الخلود
أخضرَ، ويتدلى من السقف كالثريا المعتمة
كل المعاني صار لها ظل
صارت تتحرك وتقف
وأصدمها بقدمي دون قصد
وفي كل ليلة أجد في صالة بيتي معنًى جديدًا
وحين بدأتْ تتسلل إلى حجرة نومي تضايقتُ
وحملتُ الخوف والرغبة والحب والشك
والصَّرَع والجنون والفزع
في حرص، كإصص النباتات،
ورصصتها في حديقتي
خفتُ من صاحبة البيت
التي ستسألني-أكيد-عن ضيوفي
الذين صاروا زملاء سكن دائمين
ماذا أقول؟
وكيف أذهب إلى السجل المدني في المدينة
وأقول:
أن الحزن يسكن معي،
وأن الشقة تتسع لكلينا؟
* * *
حين التقيتُ حبيبتي لم ترني
فهمتني، أحسّتني، ربما استنشقتْني
لكننا لم نستطع أن نتحاضن أو نتبادل القبلات
لقد صرتُ خِلالاً تمامًا!
كانت تقف
تنظر إلى اللا شيء
وتقبّل الهواء
وحيدةً
ومعكوسةً!
* * *
ثم إنني تلاشى ظلي
ثم إن الأشياء بهتت
وإن المسافة انقطعَتْ
وإن الزمن تباطأ، وتوقف
ثم جلستُ مع المعاني
نتسامر وندخّن
ونتحاور في (الأدلة المعنوية على وجود المادة)
وفي الأيام التالية
جاءت صاحبة البيت بساكن
بعد أن اختفى الساكن القديم.
* * *
كنت أذكر حبيبتي
التي صارت يدها الرقيقة
تخترق صدري بلا ألم
لكنني لم أستطع أن أبصر الذكرى
وكان اليأس يواسيني
يجلس معي، بهيكله العظمي العريض
ويقول:
“أنت أيضًا أكثر من مجرَّد..”
“وتآكُلُ ظلِّكَ لا يعني أنك مجرَّد..”
“عندك-مثلاً-الله..”
لكن ذكرى حبيبتي كانت كالشيء الضائع
كالذي يتلاشى
كالذي يرحل
كالذي يذوب
كما يبهت
كما ينفد
كما يتبخر
فكنت أتنهد في حنين
وكان الحنين يتنهد في يأس
وكان اليأس يصمت.
* * *
معكِ الحق يا حبيبتي
أنا لم أعد إنسانًا
أنا الآن كلمة
وحين طرق الله بابي
بعد أن صرتُ أخيرًا أراه
قلت للمعاني أن تخبره أنني غير موجود
إن الله يعرف أني موجود
لكنكِ الآن يجب أن تثبتي وجودي
لا يمكنكِ أن تحبي رجلاً بلا عالَمٍ
أنت تعرفين أنكِ
فقط
يمكنكِ أن تنطقيه ككلمة.
6.7.2014
Köln
غروب
DOOM III
ها العالَم يهبط من فوبيا الآلهة.
ومنذ قرونٍ تتسرب سحب الألوان من خَلَلِ طباقِه.
كل مفصل، رابط، لاصق، إسمنت، عاشق ومعشوق، ذكر وأنثى، سِلك، حبل.. ، تَحَللَ، وانفجر ألوانَ طيفٍ.
والكون يتفتح كزهرة.
إذا كانت الموسيقى الكلاسيكية خطة بناء الوجود، فإن نهايته مدرسة في التصوير التأثيري.
كل المسافات تملؤها الألوان المتناغمة، حتى ليستطيع طالب الفن الكسول في آخر عمر الكون دراسة هارمونية اللون مباشرة، لكن الفن قد تغير كثيرًا هذه الأيام، وانتشرت في قارات العالم مدارس “التصوير الأسوَد”: “مدرسة التصوير الأسود الفراغية” التي تركز على استعادة مفهوم الظلام ثلاثي الأبعاد، “مدرسة الظلام” التي تحاول إعادة استكشاف خبرة العَمَى، “مدرسة السواد العديد” التي ابتكرتْ هارمونية الأسود والأسود.
كل شيء ينحل في جمال مهيب، ويتصاعد غباره ليعلَق في الفراغ سديميًا.
كل سديم كان شيئًا عزيزًا.
ربما كانت هذه الحفنة من الغبار البرّاق قلبَ حبيبتكَ.
كل شيء يموت في البريق.
* * *
كان المصعد الكونيّ يئن، فيه تكدس الناس، إنه مدينة كاملة، هي آخر المدن، يصعد في بطء كوني، وحوله يتهاوى كل شيء، إنه وعاء نَوْحيّ معقّد ينقذ آخر الحضارات من طوفان اللا شيء.
الناس في المصعد ينقسمون إزاء النهاية قسمَين:
-قسمًا يرى أن الفن التشكيلي هو الذي يتفرد بتفسير أحداث النهاية.
-وقسمًا يرى أن الموسيقى غير الميلودية هي السبب في انحلال الطبيعة.
كل يوم، حين يطلع سديم “آشور”، وحين يغرب سديم “أوغسطين”، أسمع جدال ذلك الرجل وزوجته جواري.
وأتذكّر.
* * *
تزوم النحاسيات في نبرة تحذير (أم هو تهديد؟)، ثم يسير الكلارينيت طريقه المظلم منفردًا، لا مباليًا إلى درجة القسوة، ثم يتصاعد الفلوت على مقام كروماتيكي بارد، يبدأ ذلك اللحن الرهيب، في الحركة الأولى من سيمفونية شوستاكوفيتش العاشرة.
العاشرة حشرة، لها ذات البشاعة، وذات الأناقة.
لقد ترك هذا اللحن شيئًا في عقل كل من سمعه، شيئًا أقرب إلى ذلك الكائن الرخو ساكن القواقع، ربما سكن قوقعة أذني.
إنك تشعر أنك لست كما كنت، وأنك لن تعود، أن شيئًا ما قد تغير إلى الأبد، كقطرة الحبر الأسود في كوب لبن.
لم يسمعه أحد إلا وخفض رأسه في يأس، وأصيبت روحه بالغثيان.
لا أحد يقيء الروح، وهذه لعبة شوستاكوفيتش.
هل الفيزياء العامة تتحول مع الوقت إلى نظرية موسيقى؟
إن “الأوتار” أكثر من استعارة.
وإذا كان تطور البشرية في الحقيقة هو سعي لفهم هذه الحقيقة: أن الموسيقى هي خطة بناء الكون وعمله، فما مصيرنا لو كانت السيمفونية العاشرة تحديدًا هي هذه الخطة؟
لها ذات البشاعة، وذات الأناقة.
* * *
طال عمري.
لم يعد الزمن كما كان منذ زمان. لقد شاهت الأبعاد المكانية كثيرًا منذ بدأ التحلل، ومعها شاه الزمان.
هناك التاريخ، هناك السرد، هناك القصة والرواية، لكن ليست هناك ساعات ودقائق.
لقد تفوقت فنون السرد في آخر الأمر!
العمرُ تحللٌ طويلٌ.
مرتْ-منذ شروق سديم “فرجيل”-“عوليسُ” كاملة، تلتها ثلاثة فصول من “أولاد حارتنا”، ثم مقطعان بالضبط من “الأشياء الصلبة”، حين أعلنت إذاعة المصعد المحطة التالية:
“المحطة القادمة: الله. أعزاءنا الركاب، هذه الرحلة تنتهي هنا. نرجو منكم النزول. شكرًا جزيلاً.”
اندهش طفلٌ صغير كان يلعب “DOOM III”، ويقتل الشياطين بسلاح الليزر. لقد ملأوا عقله بالشياطين والآلهة، والشر والخير. لقد صار الدين موضة قديمة، لكن لم يحل الإلحاد المحل.
بصفتي أحد معتنقي نظرية الموسيقى اللا ميلودية أومن تمامًا أن تفسير ذلك قادم من أعلى.
فمن سقف المصعد، من القبة الزجاجية العملاقة، رأيناها.
كانت تنقل أرجلها الستة في بطء الضخامة المهولة.
بين السدم، والمجرات المنهارة، والأبعاد اللاتي تداخلت، والانفجارات العظمى، والانسحاقات القصوى، والمواد السوداء، كانت تفرز كل شيء، تغزل الأبعاد كعنكبوت، ونحن الذين علقنا في شباك الوجود.
كان العالم مكانًا بشعًا تجر فيه الشرطة العسكرية الفتيات فاقدات الوعي من شعورهن كأكياس القمامة عندما كان الله يحكمه، فماذا تقول إذن الآن عنه؟
بكيت وأنا أرى أزواج الأجنحة تخفق فتثير الغبار النجمي.. (لماذا؟)
الويل لهذا العالم.
كان هذا رأيي على أية حال في DOOM III.
كريم الصياد
2.6.2014
فجر
انفجار البلازما
1-هيدجر والعنكبوت: لكريم الصياد:
ياليأس هيدجر! الشاب الثلاثيني الطموح، الذي يشرئبّ أخطبوطه ليلمس مخ أستاذه المحفوظ في جمجمته الشفيفة، الغارق في الغموض، الغافي منسيًا، منذ آلاف السنين، ككائن أسطوري، لا تحكيه خرافة، لا تحكيه طبيعة، له شكل، لكن ليس له جسد. “آه! إنه حفنة من الطاقة!”.
لا يدري هيدجر أنه بعد سنوات معدودة سيتكلم لغةً هي جنين في جسد الألمانية. وأنه سيكتب الكينونة، وأنه سيخفق، ويعلو، إلى فوق، إلى فوق!
ها هي ألمانيا صارت جسدًا، والجسد صار هيدجر.
حين وصل الوحش إلى عرش جمهورية الحطام، وتحرك حلمه خارج جسمه كتنين، حين تمددت ألمانيا بقياسه، تراءى هيدجر في العيون كورم خطير، كسرطان وجودي، يحاول إضرام النار في ما تفتتَ مِن شيء. لو كانت ألمانيا كوكبًا محترقًا لكفى بهيدجر عدمًا يبرد فيه جحيمها.
ها هو الجسد صار صرخة، والصرخة صارت فمًا فاغرًا لجمجمة بيضاء.
في عالمٍ ناءٍ قصيّ، في بعدٍ ممحوق، أقرب إلى نقش في الفضاء، معلقة حجرتي البيضاء الباردة، مظلمة في أغلب عصور ذلك البعد، لا يمر عليها ضوء سوى مصباح أصفر حزين على مكتب، ولم تنشأ بهذا البعد أحياء سوى أنا، وهيدجر، والعنكبوت الذي يكرس ديمومته لهندسة قصر الخيوط الشفافة في السقف بإخلاص. إنه وحيد كنبي، مبعَدٌ عن عالم يختلف عن عالمي، لا أعرف من أين جاء.
كل منا نشأ وتطور. لا توجد نظريات كثيرة عنّا، فنحن ننظّر كل منا لنفسه، وأحيانًا ننظّر-حين نمل المنظور الواحد-لبعضنا البعض.
كريم الصياد
ألمانيا
27-5-2014
2-النَّصّ والعقل: لهيدجر:
لا أراه، ولا تمكن رؤيته من بُعدي في (الكينونة والزمان) في تجسيمه. إنه يأتي ويذهب، تشرق معه شمس صناعية ما، يخطر متعشِّقًا في السطور والمقاطع والحروف حولي. يتعثّر أحيانًا في أجزائي القليلة اليونانية. إنني أوجَد في اللغة، وهو-فيما يبدو-عقلٌ ما. إنه يمرّر وجوده على وجودي ذي البعدين. هل يكوّن-في الفهم-قوالبَ لأعضائي الوجودية؟ وماذا يصنع بها؟ هل يعيد بناء هياكل مادية، أو شبه مادية، لهذه التراكيب؟ هل هو صيغة مثلي؟
إننا حين نبلور المسألة الأساسية لوجود هذا الكائن الذي لا نعلم من صفاته سوى الفهم، وسوى أنه يعرفنا، فإننا نجد أنفسنا بإزاء سؤال خطير: هل نحن مجرد نصّ؟ وهل هو يقرؤنا؟؟؟
ولكن-حين يصل التباحث إلى مداه غير المنظور حاليًا-ينكشف لنا سؤال أبعد من ذلك، أبعد، وإنه لمن الحزن سؤله…. هل كنتُ يومًا جسدًا، أفكر، وأكتب، ثم تلاشيتُ، وبقي وجودي، كروح حبيسة سجن، هو ألياف هذا الورق، التي تغلقها قضبان الحروف، التي أبصر منها هذا الوجود؟
هل أنا نص؟ وهل كنت إنسيًا؟
هيدجر
من الكينونة والزمان
دون تاريخية
3-نظرية الكائن ذي البيت المعتم: للعنكبوت:
اليوم أجلس في شرفة قصري المفضلة. عجيبٌ أن يبدأ شيخ في مثل ما رحلت في الكآبة، ومثل ما أقمت في الوحدة، ومثل ما ذبذب بيتي من نبض الحزن المتردد، أن أكتب فلسفتي حول الطبيعة، حول كائن يتحرك حول أوراق.
إنه كائن بلا خيوط، ولا يحيا على أرض رأسية. ويمكنه أن يسقط. وحين تأملته لم أجد له بيتًا سوى هذه الأراضين الرأسية والأفقية. إنه لا يبني بيتًا فصارت هذه الأرض بيته. إنه قديم بلا نشأة. وهو إذا كان بلا نشأة فهو بلا فناء. وإذا كان بلا نشأة أو فناء فهو دائم بلا تغيّر. وتدريجيًا أفهم أن حياته تلتف وتتداخل حول هذا الورق القابع تحت تلك الشمس التي يوقدها.
هل هو أوجدني يومًا؟ ولماذا إذًا لا يلاحظني؟ هل أوجدني ونسيني؟ أم هل أعرف عنه ما نسيته في شيخوختي، وما رحلت من كآبة، وما أقمت من وحدة، وما ذبذب بيتي من حزن؟
ما الذي يفعله أمام هذا الورق الذي لا يفرزه، والذي لا يعلم أحدٌ من أفرزه وقوّمه في تصميم حديث لم تعرفه العوالم من حيث جئتُ؟
العنكبوت
القصر
ما بعد الشيخوخة
4-نداء الخيوط: لهيدجر:
إن وجودي الفريد، الذي ليس كمثله وجود؛ لأنه-ببساطة-ليس معه شيء، مسطّح في بعدين، لكنه كذلك متراكب في بعد ثالث، في طبقات كثيرة رقيقة.. وما هو كاشف لذاته بذاته أنه في كل لحظة واعية من لحظات الإدراك لما هو خارجه يتسطح في بعدين فحسب، لكنه حين ينعكس عليه إدراكه، طبقات كثيرة، لا أعرف عددها.
من خلال هذا الوجود الثنائي أرصد هذا الاحتمال: أن الوجود في أبعاد ثلاثة ممكن، وربما أمكنَ.
ما يجعلني أتحول من الإمكان إلى الحقيقة: ذلك العقل الذي يمر ويمسح وجودي، وينغرس أحيانًا في مفاصله، ولكن مع حركة هذا العقل أحيانًا أجد وجودًا أجنبيًا ثالثًا يتهاوى.. هل هي خطوط؟ بل خيوط! إنها في أبعاد ثلاثة.!
إنها خيوط رقيقة، لا وزن لها، تلتصق بوجودي، وتتحرك، لكن لم يفتني أنها تتحرك بنظام إيقاعي ما، وفي اتجاه واحد..
إنه كائن يتحرك على سطحي!!!!
هيدجر
من الكينونة والزمان
الحزن تاريخ
5-نظرية البيت الورقي: للعنكبوت:
أعرف أن في عالم الحشرات والمفصليات، من حيث جئت، يفرز البعض ورقًا كهذا ليسكن فيه. لكن هذا الكائن لا يبدو مثلها، كما أنه لا يسكنه، إنه يكتفي بتقليبه، وفضه، وغلقه، والطواف حوله.
إنه يلمسه، يدقق في كل تفاصيله، مثلما أفعل مع خيوطي، كيف يدقق كائن فيما لا يسكن؟ وكيف يسكن فيما لا يصنع؟
إنني منفيّ ووحيد في هذا البُعد؛ لأنني وضعت أملي في الرهبانية الحزينة.
إنني أول المنفيين الذين يحلمون بمنفى جديد، يتركون القصور، ويحلمون برحلة السقوط الأول في الهواء، دون خيوط، أو مصير.
إنني أُستشهَد الآن حين أهوي، حين ألمس هذا الورق الجاف، في سبيل حقيقة لن يعرفها أحد، ولن تهم أحدًا. فإن ظللت حيًا فأنا أول ساكني بيت الورق.
يا خالقي الذي نسيتني.. هل أقوم الآن بأكبر كُفر، إذ أسكن بيتك الذي لم تخلقه، ولم تسكنه، حين أرقص فيه رقصتي الماجنة الهمجية؟
ابعثني إن مت مخلوقًا أرقى، يسكن ما لا يصنع، ويدقق فيما لا يسكن، بإخلاص.
العنكبوت
من القصر
ما بعد الأمل
6-اللوجوس: لكريم الصياد:
رأيت الأرجل المفصلية البشعة على الحروف. لي شجاعة في تأمل البشاعة. كينونةٌ، وزمانٌ، وعنكبوت. إن سِفرًا لم يقتل أحدًا لن يقدر أن يحيي ورقة شجرة.
إنه يستحق أن يوجَد.
إنه يستحق أن يناضِل.
إنه يستحق أن يدمينا، وينمو.
إنه يستحق أن ننتظر طلوعه من عامٍ لعامٍ.
في الثانية التي تَهلك، والثانية التي تولَد، استوصدَ باب الكينونة، وانهمر الزمان.
كان جسم العنكبوت منسحقًا على الحروف، مستشهَدًا يحمل لواء الكلمات: “الوجود”، “الظاهرة”، “الحقيقة” بالمفاصل المهشّمة، في استماتة بطولية، وحوله انفجرت البلازما في بقعة كئيبة، شفافة، بشعة، لزجة، تشوه الحروف، وتنزّ-كالعَرَق-من مسام الورق.
تركت الكتاب خائفًا مكتئبًا، ونمتُ دقائق في مقعدي، وحين استفقت لم أجد الكتاب.
وجدت هيدجر..
لكنه ليس كهيدجر.
ها هي الكينونة صارت عنكبوتًا، والعنكبوت صار..
إن اللوجوس ليس-كما قال هيدجر-تفسيرًا لكائن.
إنه هو كائن.
مخيف.. مخيف!
كريم الصياد
ألمانيا
28-5-2014
اللقاء الثاني مع جودوفسكي
.
.
تصعد وتهبط في دمي
(نزهةٌ) لشومان من عزف جودوفسكي[1]
كعوّامة منسية.
اليوم فقط
بالذات
أجدها
هل هي رسالة؟
هل هي علامة؟
هل هي فقط عوامة قديمة؟
اليوم بالذات تلقيها في تجويف أذني الفاغر،
ككهف على شاطئ،
أمواج الراديو الأوروبي.
نعم..
لقد فارقتُها منذ قديمٍ
منذ ربع قرن
حين دخلتُ الفصل للمرة الأولى
وتلفّتُ حولي
فلم أعرف أحدًا
للمرة الأولى في حياتي لم أعرف أحدًا
عشرون تلميذًا أو أكثر لا أعرفهم كلهم
والمعلمة التي أشارت لي للجلوس
والتلميذ الذي قال لي في إغراء:
“هذا مقعد جيد؛ لأنه يتيح لك رؤية المعلمة وهي قادمة من الباب”
كلهم لم أعرفهم
خرجتُ من بيتي
من دفء جدتي وأمي
وحارة السيدة زينب
إلى غربة صغيرة
لكنها كانت-في ذلك الوقت-على قياسي
واليوم أيضًا أعود إلى غربة على قياسي
قياسي الذي صار فضاءً بحجم العقل،
والعُمْر،
والحزن.
أعود إليها من شتاءٍ وثلجٍ
وضواحي كولونيا
أعود إلى قاهرتي التي كانت جدة
وأمًا
ودافئة
فلا أعرف أحدًا أيضًا
أنت..
هل أعرفك؟
أنت..
ربما أنت..
هل أنا نسيتُ،
أم أنهم أيضًا لا يعرفونني؟
صعبٌ على الشجرة الكهلة
أن تنشب جذورها في أرض القاهرة الإسمنتية
أو في لوحة خشبية
تصور (حقول القمح) في متحف لفان جوخ بأوروبا
صعبٌ-لو تدري-
أن تفتح بابًا
في ديكور اسْتُدْيو
أو تجذب ستارًا فيه وتكشف ما وراءه
صعبٌ أن تكتب شِعرًا
بأي لغة تتكلمها مع أناس لا تعرفهم
صعبٌ أن يسكرك خمر
لم يُعصَرْ لكَ بالذات
أو أن (يصنع لكَ رأسًا) حشيشٌ
لا يعرف زبائنه.
أليس كذلك؟
بم التعلل؟
الأهلُ،
والوطنُ،
والنديمُ،
والكأسُ،
والسكنُ،
كلهم، حين عدتَ
لم يعرفوكَ!
وعوّامة جودوفسكي ترحل من كهف الأذن
رويدًا رويدًا
وأنت تعود
-كما جئتَ-
غريبًا
دون جدة،
دون أم،
دون سيدةٍ زينبَ،
وتجلس على مقعد قالوا أنه جيد،
وتنتظر وحيدًا بلا حيلة
-في الضياع الهائل-
من يأتي ليصحبك إلى لا مكان
ليعود بك إلى بيت صار حطامًا حقيقيًا
بعد أن اغتاله الزلزال،
إلى موائد خالية
في المقاهي والبارات المهجورة،
إلى تطور عكسي للقصيدة العربية
من الحداثة الملونة المفكَّكة
إلى الأطلال الباهتة المُشقَّقة.
* * *
حين التقيتُ جودوفسكي في المرة الأولى
لم ألقه
إلا في المرة الثانية.
* * *
صعبٌ أن تكتب قصيدة
لا تعرف بالذات قارئَها
أو أن يقرأها مَنْ صارَ
(يصيرُ لا يعرفك)!
كريم الصياد
Köln
3.7.2014
[1] -Promenade from Schumann’s Carnaval, Op. 9 No. 20: http://www.youtube.com/watch?v=zoPuio28J68