اللؤلؤة
أو
ذرّة رمال من سِجِّيل
من مجموعة الرجال-واي
بقلم: أشواع بن دارع
ترجمة وتعليق وتقديم: د/يوسف حمدان
مدير مركز المخطوطات بمكتبة (…)
-مقدمة:
هذا النص كشف جديد فريد يحتل موقعه بجدارة بين أهم الكشوفات في مضماره، فهو نص مذكرات ترجمان أبرهة الحبشي، الذي تولى الترجمة من وإلى العربية في المحادثة الشهيرة التي دارت بين أبرهة وعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما سنرى فالنص يبدأ بهذه المحادثة ثم يتطرق إلى وصف المعركة ليتحول بعدها في الشكل والمضمون إلى يوميات شخصية غاية في الغرابة، وإن كنا نستطيع الوقوف على تفسيرات علمية ممكنة لها، غير أن أغلبها يبقى بلا تفسير.
أترك القارئ مع ترجمة النص الذي قمت بقسمته طبقًا لقسمة النص الأصلي فصولاً وفقراتٍ، وأكتفي فقط بالتدخل في مساحات الهامش للتعليق والتوضيح، أما الأجزاء التي عجز قلمي عن بيانها فأرجو ألا يبخل عليّ القارئ بتفسير لها، لأنني فعلاً أتوق إلى الفهم!
د/يوسف حمدان
-الفصل الأول: المحادثة بين الزعيمين وواقعة الفيل العجيبة:
“قد كنتَ أعجبتَني حين رأيتُك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلّمتَني”
كذا نطقتُ في أسف مترجمًا عبارة أبرهة المعظّم لسيد قريش عبد المطلب بن هاشم، وقد أحرجتْني حدة طبعه أمام لين الزعيم العربي وتواضعه وهيبته، لكنها الحقيقة! إن العربي لا يطالب سوى بمئتي بعير كانت له سلبها جيش أبرهة، وأما البيت فلم يبدِ الاهتمام الذي توقعه أبرهة بشأنه، وهو ما أدهش بطلاً كأبرهة كان يتمنى مقارعة بطلٍ يناهزه قوةً بدلاً من أن يقتصر دوره على ما يقوم به عامل هدم من رعاياه.
رأيت أن وجه أبرهة الأسود الصخري يزداد سوادًا وجفافًا، ثم يرفع رأسه ويأمر برد القطيع، ثم يدير رأسه ويأمر بتجهيز الجيش غدًا لهدم الكعبة.
وفي صباح اليوم التالي نهضنا على صوت النفير، واغتسل الجند، واستعدوا، وأعدّوا الأفيال التي أتى بها أبرهة المعظم ليرهب العرب، وعلى رأسها فيل عظيم شارك في ثلاث حروب ودمر أبنية أعظم من الكعبة، ثم توجه الجمع إلى مكة.
وهنا حدث شيء عجيب رأيته بأمّ عينيّ، فقد توقف الفيل، ومنيت كل محاولات دفعه ووخزه بالحراب وضربه بالسياط بالفشل، حتى أن أحد الجند عمد إلى استفزازه بإدخال عصا رفيعة في أذنه، وهو كفيل بإثارة جنونه، لكنه تحمل في صبر حيواني غريب، وإن كنت أقسم أنني رأيت على ملامحه الألم.
وجهوه إلى كل الجهات فاتّجه، وإلى مكة فبرك.
كانت عيون الجند تتسع، راحوا يتلفتون، وساد الصمت بينهم.
نزل أبرهة عن عرشه وأمر وقد زاد غضبه بالتوجه إلى الكعبة بدون الفيل، فتحرك الجيش، والغريب أن بقية الأفيال الثلاثة عشر التي جئنا بها تململت وعصت قادتها، كأنها تحذو حذو كبيرها.
اقتربتُ من أبرهة، وهمست في أذنه:
-أبرهة المعظم.. الأفيال تتمنع والجند خائفون، وقد سرت بينهم الأقاويل عن عقاب السماء…
نهرني مقاطعًا:
-أنا السماء!
وازداد وجهه اكفهرارًا ورجفة، ففهمت أنها معركة بينه ونفسه، قبل أن تكون بينه وقريش.
-الفصل الثاني: المعركة:
فجأة تصايح الجنود، وأشاروا إلى الأفق، فلما نظرنا وجدنا غيمًا أسودَ كثيفًا كالدخان يفوح ويقترب، وقال أحدهم:
-طيور.
توقف أبرهة ونزل عن عرشه مرة أخرى محدقًا في طرف السماء، فتوقف الزحف، وساد صمت رهيب قوامه ستون ألف مقاتل عقد ألسنتهم التوجس، راحت الخيول تصهل وتحمحم بقوة كأنها ابتلعت جمرًا، وراحت تتحرك وتثير الغبار فنزل أغلب الفرسان عنها.
وبعد لحظات كانت الطيور فوقنا، وعرفنا أنها تحمل في مناقيرها وأرجلها قطعًا من النار تنشر كل هذا الدخان، وحين أفلت أول طائر شظية ملتهبة رأينا الرعب الذي لم نتصوره.
كانت الشظايا تسقط على رءوس الجند فتخرج أدمغتهم من رءوسهم، ثم قلوبهم من صدورهم، ثم أمعاؤهم من البطون، فيسقطون أجسامًا خِلْوَة رخوة يتصاعد منها الدخان، بعضهم خرجت عظامهم من جلودهم، البعض خرجت جمجمته حيًا من وجهه، والبعض ذابت دروعه وثيابه وجلوده وخرجت عظام صدره كما تطفو أضلاع السفين الغارقة في بركة آسنة، والبعض كانت فقراته تتفرط كحبات العقد المنقطع وتتطاير في كل جهة.
ملأ الدنيا الدخان والظلام والدم، لم أعد أرى فرحت أعدو دون هدى، تغوص قدماي في أجساد بلا أحشاء، وأحشاء بلا أجساد، وأثناء عدوي الأهوج اخترقت قدمي من أسفل عظمةُ صدرٍ حادة كالمسمار، فلم أهتم وأكملت عدوي حتى غادرت دائرة الدخان.
ورأيت طائرًا من الطيور يقذف شظيته على أحد الجند، غير أن ذرة دقيقة منها كحبّة رمالٍ انفصلت عنها في الهواء وأصابت رأسي، فأحسست كأن إبرة محمّاة تخترق دماغي، وانتظرت أن تخرج الذرة من رأسي، أو أن يخرج رأسي من وجهي.
لكنّ شيئًا لم يحدث.
احتملت ألم الرأس والقدم، وأنا أرى الطيور تنسحب، والجند يتشتتون على مساحة هائلة، وعرفت أن قادة أبرهة أصدروا أوامرهم بالانسحاب، لأنه لم يعد يقوى على إصدار أمر أو شيء باستثناء أمعائه التي بدأت تتكشف عنها جلدته.
في ذلك اليوم الرهيب لملمنا ما استطعنا من المتاع وغادرنا بأقصى سرعة، وكنت في حالة أشبه بالمجنون، لا أكاد أميز شيئًا أراه أو أسمعه، المشهد الوحيد الذي ظللت أتخيله مشهد أبرهة الذي يتفسخ ويرى أمعاءه تزحف من بطنه كالثعابين، وأنبأني صداع رأسي أن الجحيم الذي ساقته إلينا الطيور يدخر لي مصيرًا أكثر بشاعة مما رأيت، أو تخيلت.
-الفصل الثالث: عودتي والرؤيا العجيبة التي زارتني:
بعد عودتي إلى أكسوم([1]) غبت في غيبوبة طويلة، أفقت بعدها في أسوإ حال، وتوسلتُ إلى امرأتيّ أن تحضرا لي ساحرًا أو مُعالجًا ليخرج العظمة من قدمي، فجاء أحدهم بعد طول توسل، وحاول كسر العظمة أو نزعها، لكنني كنت أصرخ من الألم، وبعد أيام أخبرني المعالج أن العظمة لسبب ما صارت جزءًا من عظام قدمي وأن نزعها مستحيل، وقد بدأ اللحم والجلد ينموان عليها، فصار مشهد قدمي كرأس وحيد القرن الذي رأيته في الغابة.
وخطر لي خاطر غريب: أن العظمة التي اخترقت قدمي قد أعاقت بشكل ما الشظية الدقيقة عن أداء أثرها الجهنمي، لهذا لم أمت كمن مات.
لا أعرف كيف، ولكن من ينتظر بصدد شظية تسبب إصابتها خروج الدماغ والقلب والكبد أن يفسر أو يعرف شيئًا بوضوح؟!
مكثت على هذه الحال عدة أيام، والصداع لا يسكن في رأسي، وكانت زوجتاي تتشفيان فيّ أو لا تعيرانني أي اهتمام.
وفي إحدى الليالي رحت في غيبوبة معتادة من قلة النوم والطعام والألم، فرأيت أنني أسير على ضفة النيل، وأن سطح الماء لامع مستقر أراني فيه من رأسي إلى قدمي، لكنني كنت داكنًا كالدخان، وكانت عظامي وأحشائي بادية في انعكاسي شفافة بلون السماء، مررت كفي أمام الماء فرأيت فيه عظام كفي كلها شفافة وسط لحم أسوَد، وأصابني الفزع([2]).
فلما نظرت إلى رأسي في المياه.. رأيت دماغي راقدًا وسط عظام رأسي الشفافة، وفي مركزه رأيت تلك الحبّة اللامعة، إنها الشظية التي اخترقته ولم تغادره.
صحوت وأنا أنادي على زوجتيّ، لكنْ لم يستجب أحد.
-الفصل الرابع: الرؤى:
تتابعت الليالي وقد خفّ الألم، ومعها تتابعت الرؤى المشابهة، لكنني كنت ألاحظ ليلةً بعد ليلة الشظية اللامعة القابعة في لحم دماغي وهي تتحوّط بغلاف نصف شفاف لامع.
وبعد ذلك أخذت ألاحظ هذا الغلاف وهو يزداد ثخانة ويتراكم ليصير كرة صغير بحجم عقلة الإصبع، يحيط بالشظية، ويبيت في دماغي، فزال أثر الصداع تدريجيًا.
لكنني بدلاً من الصداع بدأت أعاني إحساسًا آخر، كأن أحدهم يلمس بإصبعه عيني، إحساسًا بجسم غريب عني، غير أنه في الدماغ.
كنت أبكي من الخوف، لكن حين تصحو إحدى زوجتيّ كنت أداري عنها كل ضعف.
-الفصل الخامس: اللؤلؤة:
صرت في الرؤى أرى حقيقتي، فقد بدأ رأسي يتضخم، مما صار يعني أن الرؤيا حقيقية، وأن البلورة التي تكبر ليلة بعد ليلة في دماغي ليست حلمًا.
وذاتَ حلم.. مددت يدي في الماء نحو انعكاس رأسي، ولمست البلورة، فأحسست بيدي الباردة تعبث في دماغي، أحسست بأصابعي تتوغل تحت عظامي وتغوص في مخي اللزج، لكنني احتملت الألم، وأمسكت بالبلورة، فرأيت يدي على صفحة الماء تمسك بلؤلؤة كبيرة بحجم عقلتي إصبع، لم أر أجمل ولا أكبر منها.
أفقت فجأة من الرؤيا لألمح يدًا تنسحب بخفة من رأسي، كانت يد إحدى زوجتيّ وقد رأت أنني صحوت، وخطر لي أنها أوحت لي بهذا الحلم، فقد أحسست بيدها وظننت في الحلم أنني من يفعل ذلك، أو…
نهضت وهرعت إلى المرآة الفضية، ودققت النظر في رأسي وأزحت عنه الشعر، كيف أدخلتْ المرأةُ أصابعها في رأسي؟!
فرأيت رأسي مشقوقًا كثمرة رمان ناضجة، ومن الشق يخرج بريق، بريق جسم أبيض لامع يغشي ضوؤه الأبصار([3]).
-الفصل السادس: (بلا عنوان):
تتالت الأيام، ورأسي يتضخم، والشق فيه يتسع حتى ليصير رأسي كفلقتي محارة، واللؤلؤة في الرؤيا والحقيقة تزداد حجمًا وتكويرًا وبريقًا.
وفي صباح رهيب.. أحسست أثناء نومي بيد تعبث في دماغي، فأفقت فزِعًا على إحدى زوجتيّ وهي تغوص بأصابعها في رأسي وتقبض على اللؤلؤة، أحسست بألم شديد، وخوف أشد، حاولت دفعها لكن الأخرى ضربتني في صدري ضربة مهلكة، والأولى تنزع اللؤلؤة، فلما نزعتها أحسست أنني موشك على الموت كأنها نزعت دماغي نفسه، تمددتُ مرتخيًا، ورأيت ضمن ما رأيت قبل أن أضيع في الغيبوبة زوجتي وهي تحمل اللؤلؤة التي صارت بحجم قبضتها أو أكبر، ومنها تتدلى أحبال غريبة دامية كالأحبال السُّرية التي تتدلى من المواليد، كلها تتراقص وكلها تنزف.
ولما أفقت من الغيبوبة كانت بقايا الأحبال تتدلى من رأسي الذي بدأ يلتئم، غير أنني صرت مشلولاً وفاقد النطق.
لم أعد أتحرك سوى في الرؤى.
-الفصل السابع: (بلا عنوان):
كانت الرؤى تتابع في النوم واليقظة، وأصبح بإمكاني أن أرى تلك التفرعات التي تتمدد داخل جسمي من رأسي إلى عنقي إلى صدري وبطني وحوضي.
وفي أغلب الفروع كنت أرى لآلئ جديدة كالثمار الصغيرة، في القلب، في الصدر، في أمعائي، في حوضي، وكان عمودي الفقري يلمع في ظلام الحلم كحبات عقد من اللؤلؤ، وفي كل فقرة لؤلؤة.
وبدأت أفهم أن اللؤلؤة قد نشرت بذورها بعد نضجها عن طريق الأحبال الـمُخية التي ظننتها أحبالاً سُّرّية، وأن اللؤلؤ انتشر كالمرض.
هذه هي اللعنة التي فررت من المعركة وأنا أحملها في مخي.
ليتني متُّ ميتة أبرهة.
-الفصل الثامن: المزرعة:
لم تكن أي من زوجتيّ على علم بالرؤى، لكنها كانتا تصيران على علم باللآلئ في أمعائي حين تكبر وأصرخ من ألمها، عندئذٍ تقوم إحداهما بسقياي خمرًا، بينما تحضر الأخرى سكينًا وتستخلص اللؤلؤة.
وكانت إحداهما إذا احتاجت مالاً تحدث الأخرى برغبتها في استخلاص لؤلؤة منّي، فتعترض الثانية بأن اللؤلؤ لم ينضج بعد، لا زال طريًّا أو صغيرًا، فتقنعها الأولى بحاجتها، فتشقان جزءًا من بطني حيث تستشعران جسمًا صلبًا وتخرجان ما تبغيان.
حاولت لعدة أيام أن أعصيهما فلا أبتلع ما تدسان في فمي من الطعام وما تسكبان من الشراب، وأنا عليمٌ أنني لو مت فسوف تخسران ما تجنيان من حياتي وألمي، والموت عندي أفضل الأحوال، لكنهما شقتا أمعائي وصارتا تصبان فيها الخمر والسوائل مباشرة كي أعيش رغمًا عني، ورغم أن أمعائي لو نفدت لآلئها فسوف تضطران إلى شق عظام ظهري أو حتى قلبي لتحصيل آخر اللآلئ.
-الفصل التاسع: آخر اللآلئ:
حدث ما كنت أخشاه، فقد نفدت لآلئ أمعائي، وطيلة أسابيع لم أمنح المرأتين الشرهتين شيئًا، تشاورتا أكثر من مرة في أمر قتلي وإخراج بقية الكنز، تناقشتا أمامي كأنهما ستذبحان حيوانًا، لكني فهمت أنهما تخشيان انكشاف الجريمة، وأثناء ترددهما سقطت إحداهما أرضًا متألمة من بطنها وهي حبلى، كانت قد حبلت مني بعد عودتي بأسابيع من الحملة الخاسرة، وهي ملاحظة هامة، لأنها وضعت لؤلؤة.
لؤلؤة أكبر من أية واحدة سابقة، وإنْ لم تكن منتظمة في شكلها، وخطر لي أن جسد المرأة لا يكوّن اللآلئ بالانتظام الذي يحدث في جسد الرجل، لكنها لؤلؤة تساوي أكثر مما في جسدي كله من اللؤلؤ، وبدأتا تعرفان ما لديهما من ثروة ممكنة تفوق ما حصّلتاه مني فعلاً بأضعاف.
أرغمتني الثانية على مضاجعتها، وبعد شهرين أرغمتني الأولى لتحبل بلؤلؤة ثانية، لكني كنت أتوقع لهما مصيرًا مرتبطًا بمصيري.
كانت الرؤى لا تتركني، وكنت أرى جسد كلٍ منهما مكشوفًا من داخله في صفحة النهر، واللآلئ تتفرع فيه وتنقل بذورها إلى كافة الأعضاء، إلى اليوم الذي تنضج فيه.
بعد شهور صارت التي وضعتْ ممددة إلى جانبي، وقد نزعتْ التي لم تضع لؤلؤةَ دماغِها ولآلئَ أمعائها، وبعد شهور وضعت حملها بدورها وتمددت جوارنا من الألم.
لم نصرخ.
لو عرف الناس لما رحمونا.
حان الوقت لاستقبال موتٍ هادئ.
كانت الرؤى تظهر اللآلئ التي تتضخم في القلوب، موشكةً على أن تلدها الصدورُ.
لكنني كنتُ سعيدًا.
وربِّ الكعبة كنت سعيدًا!
***